الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ جَلَسَتْ في ركن البيت متشاغلة بقراءة مجلة.
وجلس هو في طرف آخر يطالع المجهول في الحائط أمامه، وبعد فترة صمت، نظرتْ إليه وقالت: لم تكن تلك عادتك معي ماذا تنقم علي؟
فردَّ: ولم تكن أيضًا تلك عادتكِ معي، فما الذي تغير فيَّ؟ تكلما.. تعاتبا.. ارتفعت أصواتهما.. اختلفا.. كاد أن يطلقها، ولكنه تذكر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) (رواه مسلم). يَفْرَكْ: يبغض.
صورة تحدث في كثير من البيوت، حين يظن الطرفان أنهما سيظلان على نفس العهد، ويستمران على نفس الصورة المشرقة التي كانت في أول الزواج.
والزوجان العاقلان هما اللذان يُدركان أن الزواج مراحل: فبدايته كما وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه- وكان قد تزوج امرأة ثيبًا، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: (هَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ)؟ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ وَالِدِي -أَوِ اسْتُشْهِدَ- وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ.
فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ، فَلاَ تُؤَدِّبُهُنَّ، وَلاَ تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ. (متفق عليه)، والثيب بلا شك تلاعب زوجها.
ولكن مرحلة بداية الزواج -لا سيما للبكر- يكون لها طعم مختلف، ونفسية أخرى، قد نسميها مرحلة الملاعبة -استرشادًا بالحديث-، وهي المرحلة الأولى في الزواج، وهي تتميز بالعواطف الجياشة، ووردية التصورات.
بيد أن هذه المرحلة لن تستمر إلى الأبد بلا شك، فالحديث يشير إلى اختلاف البكر عن الثيب -التي سبق لها الزواج-؛ فعقلها يغلب عواطفها لذا فهي تستأمر في نكاحها ولا تستأذن كالبكر.
وهذا أيضًا يبرر ما اعتذر به جابر -رضي الله عنه- في الحديث المذكور: أن أباه قد توفي وترك أطفالاً، فهو يريد أن يتزوج من ثيب، تعينه على تربيتهم.
فالمرحلة التي تلي المرحلة الأولى قد نسميها مرحلة الاستقرار النفسي، أو مرحلة التعقل، حيث يبدأ الطرفان في إدراك بعض أمور الحياة، كما أن العواطف تعود لتأخذ وضعها الطبيعي في حياة الزوجين.
والمشكلة التي تبرز تتمثل في أحد شقين:
1- في الفتور وتحول العواطف.
2- الرغبة في العيش دائمًا في المرحلة الأولى، ومطالبة الطرف الآخر بذلك.
وكلا الأمرين خطأ، يؤثر في الحياة الزوجية بلا شك، فكلا الطرفين له حقوق، وعليه واجبات لابد أن تراعى في جميع الأحوال والظروف، فلا يحل للمرأة، مثلاً: أن تهمل في شأن زوجها، وتنشغل بتربية أبنائها عن تلبية حاجته، والاعتناء به.
وهو -كذلك- لابد أن يقدر لها دورها الذي تقوم به، وعناءها الذي تعانيه في مهامها الجديدة، التي استجدت في حياتها، ويطلب المستحيل ذلك الذي يظن أن زوجته ستظل على حالها منذ أول زواجها وحتى آخر عمرها.. ولكن هناك حد أدنى لابد من المحافظة عليه -فمن زاد فقد أحسن.
ومن نقص فقد أساء-، وهو أن يراعي كلا الطرفين الآخر، فيظهر له ودًا كلما احتاج، وسنحت الظروف، ويؤدي حقوقه المادية والنفسية على وجه يرضيه.
وما أعظم أن نتدبر قوله -تعالى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) (البقرة:228).
وصية قبل الزواج:
أوصت أمامة بنت الحارث ابنتها أم إياس بنت عوف الشيباني، عندما زفت إلى عمرو بن حجر ملك كندة فقالت:
"إن الوصية ذكرى للغافل، ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزواج لغنى أبويها، وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن ولهن خلق الرجال!
أي بنية: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبًا ومليكًا، فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكًا، واحفظي له خصالاً عشرًا، تكن لك ذخرًا.
أما الأولى والثانية: فالخضوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينيه وأنفه، فلا تقع عينه منكِ على قبيح، ولا يشم منكِ إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت طعامه ومنامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصي له أمرًا، ولا تفشي له سرًا، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مغتمًا، والكآبة بين يديه إن كان فرحًا".
هل يتزين الرجل لزوجته كما تتزين المرأة لزوجها؟
يظن بعض الرجال أن من العار أن يتزين الرجل لزوجته!! وهذا الاعتقاد غير صحيح فقد دعا الإسلام إلى كل ما هو جميل.
ونفر من كل قبيح، قال -تعالى-: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)، ويقول: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر:4)، كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (رواه مسلم).
فالتجمل والتطهر من أسباب توثيق عرى المحبة، والتوفيق بين الزوجين، ولذلك أمر الإسلام بالتطهر والتجمل، وأكد على الزوجين هذا الأمر، فقد ورد في تفسير الآية: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) (البقرة:229): أن يتصنع لها كما تتصنع له -أي يتجمل لها-.
وقد روى يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي، قال: "أتيتُ محمد بن علي بن أبي طالب -محمد بن الحنفية- فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية -نوع من الطيب- فقلت: ما هذا؟ قال: هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي، ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهي منهن".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي".
ولقد قال العلماء: "يستحب للرجل أن يهتم بزينة نفسه مع زوجته، كما عليها أن تكون كذلك معه، فينظف نفسه ويزيل عرقه، ويغير الرائحة الكريهة من جسمه وفمه وتحت إبطيه، ويتطيب، ويقلم أظفاره، ويلبس خير ملابسه، ويدهن شعره ويرجله بالمشط، ويشذب شعر لحيته ورأسه، حتى لا يكون على هيئة منفرة، ليكون عند امرأته في زينة تسرها، وليعفها عن الرجال".
قبل أن تغرق السفينة:
أدركوها قبل أن تغرق...
فقد ناءت بأحمالها، وتسربت المياه من قيعانها، وتنادى الناس فيها: النجاة... النجاة... وأنى لهم النجاة في عرض بحر متلاطم الأمواج وقد هجرها ملاحوها، وانشغلوا عن قيادتها بتأمل جمال غرفة القيادة.
وبالتنافس فيما بينهم على قيادتها وهي تغرق، فلما جد الجد كانوا أول من تركها.
والسفهاء آخذون في خرق قعرها، يتقاتلون على الخرق، ويغسلون وجوههم فرحًا بما اندفع من الماء إليها. من بين هؤلاء جميعًا يرتفع صوت ضعيف، لكنه قوي بإيمانه بقضيته: أدركوها... وأنى لسفهاء وأهل نفاق أن يعوا صيحة تحذير، أو صرخة نذير فلابد لأهل الحق من همسة، ولابد لهم من عمل؛ إنجاءً لأنفسهم، وإعذارًا أمام الله.
إنها الأسرة المسلمة المحاصرة من كل جانب والمستهدفة في دينها وهويتها ولغتها وعقيدتها وأخلاقها.
قبل أن تغرق السفن، وقبل أن تتسع الخروق، وقبل أن تتشعب الطرق وقبل أن يطغى البحر بعنفوانه، أنقذوا هذه الأمة من الفساد والنفاق، والظلم، والمادية؛ فقد تداعى الأكلة عليها، فرحماك يا رب… أنقذوها بعمل جاد وقوة إرادة وهمة لا تفتر واستعانة بالله لا تنقطع.
عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ. فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) (رواه البخاري).
الكاتب: ياسر عبد التواب
المصدر: موقع صوت السلف